* مدخــل :
إنّ
العمارة العثمانية تمثل المرحلة الأخيرة من الطرز المعمارية الإسلامية المنتشرة في
جزء واسع من العالم الإسلامي، شمل الأقطار والأقاليم التي سيطرت عليها السلطنة
العثمانية في قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا لمدة قرون طويلة.
ولا
شك أنّ هذه العمارة عموما شهدت عدة مراحل من التطور راوح بين الإقتباس والإبداع،
تفاعلت مباشرة مع المدرسة السلجوقية في المقام الأول ثم المدرستين الإيرانية في
العصر الصفوي وماتلاه ، و المدرسة الهندية في عصر أباطرة
المغول.
كان
تأثير الطابع المعماري العثماني على أوروبا قويا ومباشرا. أما في الأقطار العربية
فقد احتفظت بطابعها المحلي الموروث في جل عمائرها وهو ما يفسر قلة إنتشار المعالم
المشيدة وفق الطراز العثماني، ولكننا نلاحظ تسرّب التأثيرات المعمارية وكذلك
الفنية بين الطابعين العثماني والمحلي، وهو ما حدث على سبيل المثال في الجوامع
الحنفية بمدينة تونس ، ماعدا جامع " محمد باي " المعروف بجامع
" سيدي
محرز ".
و
يمكن تقسيم تاريخ العمارة العثمانية إلى مرحلتين أساسيتين :
-
الأولى وهي فترة الطابع التقليدي المعماري الإسلامي والتركي مع المحافظة على بعض
التقاليد المعمارية البيزنطية.
- أما الفترة الثانية
وهي التي تهمّنا في هذه الدراسة فقد طبعها المهندس العبقري " قوجه معمار
سنان" كبير المعماريين في البلاط العثماني بين سنتي 1538م-1588 م"(1) ، والذي قام بتشييد أكثر من أربع مائة
وسبعين أثرا معماريا في منطقة الأناضول وأوروبا العثمانية وبعض الأقطار العربية . وتواصلت تأثيرات
مدرسة سنان مع تلاقحها مع بعض التأثيرات الفنية الأوروبية، إضافة إلى بعض
المحاولات لإحياء المدرسة التقليدية العثمانية وتطويرها وابتكار أنماط جديدة فيها(2).
* خصائص
المساجد العثمانية:
إنّ
حركة العمران النشيطة ومظاهرها المتنوعة بتنوع عمائرها التي عاشتها السلطنة
العثمانية وإيالاتها الممتدة على قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، لدليل ساطع على مدى
ما كانت تحتفل به من نهضة عمرانية واسعة وما صحبتها من حركية دينية وتعليمية ضخمة
كانت لها إنعكاساتها وتفاعلاتها الحضارية وكذلك الفنية التي ترجمتها بجلاء روائع العمارة العثانية بمختلف أصنافها
ووظائفها سواء كانت دينية أو مدنية أو عسكرية.
ولا
شك أنّ
المدرسة العثمانية كانت ولا تزال تمثل آخر ما وصلنا من إبداعات العمارة الإسلامية
حيث إستخدم الأتراك العثمانيون الطرز التي كانت سائدة في موطنهم إلى جانب تفاعلهم
مع الأنماط المعمارية والفنية العربية إثر فتوحاتهم للشام والعراق ومصر والمغرب
العربي ( ما عدا المغرب الأقصى).
كما
أدّى
تأثير المعمار العثماني من قبل بالمدرسة المعمارية البيزنطية بعد فتح القسطنطينية
سنة 587ه/1452م،
إلى ظهور نمط معماري عثماني جديد برز في روائع العمائر العثمانية التي اختزلت أساسا
في المسجد- الجامع الذي حضي باهتمام كبير نظرا لقدسيته ورمزيته الدينية.
فكان له تأثير واضح ومباشر على بقية المباني الدينية والعسكرية والمدنية على حد
السواء.
- هذا
وقد مرّ
تخطيط الجامع العثماني بخمس مراحل تاريخية يمكن تلخيصها فيما يلي:
المرحلة
الأولى :
تمتد من قيام الدولة العثمانية في مطلع القرن الثالث عشر ميلادي وحتى فتح
القسطنطينية سنة 1453م، وهي مساجد متأثّرة بتخطيط المدارس
السلجوقية التي تقوم على أساس الصحن المسقوف المحاط بالأواوين وكذلك الغرف التي
تحتل الأركان. كما نجد نوعا آخر
من المساجد الصغيرة وهي عبارة عن نسخة من المساجد السلجوقية الأولى (3)
التي تقوم على أساس القاعة المربعة
المسقوفة بقبّة
واحدة ويتقدّمها
رواق معوّضا
الصحن،
وكان هذا الطراز الأخير هو المنطلق الحقيقي والأساسي للجوامع العثمانية المتطورة.
وقد إشتهرت بهم مدينة " بورصة " التي اتّخذها العثمانيون أوّل عاصمة لهم سنة 699 هـ/1299م.
ومن أمثلة ذلك جامع " يشيل " الذي بناه
السلطان " شلبي
محمد بن بيازيد "
بين سنتي 1412م
و1419م
. والمعلوم
أنه أطلق على هذا الطراز مصطلح " المسجد - القبة ". كما نجد طراز
بورصة الأول الذي يتكون من مساحة مربعة تختلف من مسجد إلى آخر، وتغطي هذه المساحة
المربعة قبة تقوم على منطق إنتقال الحنايا الركنية أو المثلثات ، ويتقدم المسجد في
أغلب الأحيان رواق خارجي هو عبارة عن سقيفة تغطى بالقباب أو الأقبية
او الإثنين معا.
كما
تشتمل تلك المساجد على مئذنة او مئذنتين إسطوانية الشكل ذات شرفة تنتهي بشكل مخروط
أو نصف قبة.
كما
نجد نمطا ثان برز في تلك الفترة : وهو عبارة عن تطور لطراز " المسجد - القبة
" إذ تم توسيع المسجد من الداخل بإضافة أربعة إيوانات تحيط بمربع القبة من
الجهات الأربعة لتشرف على المساحة الوسطى من خلال أربعة عقود تحضّر فيما بينها
الإنتقال الذي تقوم فوقها قبّة المسجد. ويتقدّم المسجد أمام المدخل
الرئيسي على محور المحراب رواق خارجي تغطيه ثلاثة أقبية.
أما
النمط الثالث فنجده في جوامع " بورصة " : فهو يتكون من صحن
به ثلاثة أواوين، و يحتوي على غرف جانبية صغيرة، أما الأواوين والصحن فجميعها مغطى
بالقباب (4).
المرحلة
الثانية : وهي فترة ما بعد فتح القسطنطينية على
يد السلطان " محمد
الفاتح " 1453 م.
وفي عهدها الأول الذي امتد حوالي نصف قرن ظل تخطيط الجامع
العثماني محتفظا بطراز " بورصة " المشار إليه،
وذلك قبل تأثيره بالعمارة البيزنطية وخاصة بطراز كنيسة القديسة " آيا صوفيا " التي شيّدها الإمبراطور
" جستينيان " بين سنتي 532 م و537 م، فكانت البداية
بتحويل الكنيسة إلى مسجد بعد تعديلات طفيفة، وأصبحت بعد ذلك نموذجا يقتدى به في
بناء المساجد العثمانية. فمخططها يتكون من بلاطة وسطى واسعة،
وعلى جانبيها بلاطتان، وفي البلاطة الوسطى قسم مركزي مربع مسقوف بقبّة كبيرة، يتصل به من
الشمال والجنوب جناحان مسقوفان بنصفي قبة أقل إرتفاعا من القبة المركزية (5).
فالتأثير
الهام الذي تركته كنيسة " آيا صوفيا " على المساجد
العثمانية المشيدة بعد فتح إسطنبول، يتمثل بالخصوص في القبّة المركزية المهيمنة
على بيت الصلاة، وكذلك أنصاف القباب. وهذا النوع من الهندسة المعمارية من شأنه أن
يجنب البلاطات بأعمدتها وعضائدها الكبيرة، وبالتالي يتم الاستغناء عن نظام الصحن
المكشوف المحاط بأروقة على جانبيه ، كما أن توسط ميضأة مقببة لهذا الصحن أضفى عليه
بهاء وجمالا، إضافة إلى ما ألحق بالمسجد الجامع من مؤسسات مثل المدرسة والمكتبة والمستشفى، وبالتالي أصبح
الجامع العثماني مجمّعا معماريا ضخما يشمل العديد من
المؤسسات الدينية والمدنية والتربوية (6).
وفعلا فإنّ
نظام القبّة
المركزية يتفق مع الإتجاهات الجديدة للعثمانيين والسلاجقة من قبلهم، وهو طراز جعل
رؤية المحراب وخطيب صلاة الجمعة أفضل من جانب المصلّين
حيث تحرّرهم
من كل الحواجز التي أحدثتها الأعمدة والقناطر.
المرحلة الثالثة : وهي الفترة
التي هيمن عليها المهندس المعماري المبدع " سنان "
الذي إبتكر طرازا جديدا يختلف عن طراز جوامع بورصة. فكان له الفضل في تطوير تخطيط "
آيا صوفيا "، إضافة إلى إقتباسه
من التقاليد التركية القديمة في فن العمارة. فكانت براعته في بناء القبّة
وتنوع مساحتها المربّعة
لتهمين على كامل أرجاء المصلّى
بشكل متناسق وجميل "
يضمّ
المصلّين
مع أولى الأمر وأتباعهم " (7) دون
حواجز اجتماعية
ولا بصرية تحول دون التواصل المباشر مع الإمام والخطيب.
فمن هذا التصميم
الجديد غدت مساحة بيت الصلاة تعادل ثلاثة أمثال مساحة مثيلاتها
في الجوامع المتقدّم ذكرها ،
حيث أصبحت القبّة
أكثر ضخامة من حيث القطر والارتفاع من أي نوع من أنواع القباب التي عرفت في تاريخ
العمارة الاسلامية.
كما زيد عدد الصومعات فأصبحت أربع مآذن : إثنان في ركني الحرم، ومثليهما في ركني
الصحن. وجعلت الرحبة المحاذية لقاعة الصلاة من جهة جدار القبلة: تربة تضمّ
رفاة السلطان أو الأمير أو الوزير المؤسس
وكذلك المقرّبين
من رجاله، مع تربة ثانية للزوجة والنسـاء والأطفال، إضـافة إلـى بيت صغير لخـادم
التربتيـن وهو" الترابي".
ويمكن
تلخيص هذه الابتكارات الجديدة في أعمال المعماري الشهير" سنان" فيما
يلي:
أ-
البراعة في بناء
القبة مع تنوع المساحة المربعة القائمة تحت هذه القبة المركزية .
ب-
الصحن الفسيح المكشوف
والمحاط بأروقة من الجهات الأربعة، والذي تتوسطه ميضأة غاية في الجمال.
ج- وجود العديد من النوافذ والشمسيات في
رقاب القباب وفي بواطن العقود لنفاذ الضوء الطبيعي لبيت الصلاة، وكذلك ابتكار
أسلوب آخر لمساعدة إدخال الضوء إلى العمارة وذلك بتغيير موضع أنصاف القباب نحو
الخلف إلى مربع القاعدة مع إنفصال دعامات القبة الأربعة عن الجدارن الخارجية، وكذلك
إقامة عقود كبيرة تحمل القبة المركزية وفتح نوافذ في بواطن هذه العقود لدعم إضاءة
المصلّى.
د- التقليل من ثقل
البناء بإرتكاز القبة كليا على المثلثات الكروية التي ترتكز بدورها على الدعامات
الأربعة الضخمة (Pattes
dEléphant) القائمة في بلاطة
المحراب ( كما هو الشأن بالنسبة لجامع "محمد باي
المرادي" بمدينة تونس والمعروف لدى العامّة بجامع "سيدي محرز" ).
هـ- جعل المصلّى أكثر عرضا بفضل الرواقين الجانبين اللذين
تغطيهما قباب تحفّ ببلاطة المحراب.
و- إضافة باب كبير للصحن على غرار المباني العربية
والسلجوقية.
فالتناسق البديع وكذلك التّدرج في بناء القباب وأنصافها،
جعل من هذا الطراز رائعة من روائع العمارة الاسلامية التي تبهر الأبصار بضخامتها
وتناسقها ورشاقة عناصرها وطابعها الزخرفي الأخّاذ، إضافة إلى جمال الشرفات
المعشقة.. فكانت تلك المنشآت التي إبتكرها الفن المعماري العثماني على يد "
سنان باشا " مدرسة أثبتت عبقريتها ومهارتها في إنجاز أنظمة جديدة تحرّرت من
التأثيرات البيزنطية التي انطلقت منها وكذلك من التقاليد المعمارية السلجوقية. وهو
ما جعل الطراز العثماني يعبّر عن عقلية ناضجة وقدرة معمارية مبدعة كانت ولازالت
تأثيرات تصاميمها واضحة على تخطيط وعمارة وزخرفة المساجد والجوامع بالبلاد
الاسلامية، ومثالا لذلك سنسوق نموذجين من الجوامـع الحنفيـة بمدينة تـونس في العهد
العثمـاني وتحديـدا في الفترة المرادية بين سنتي 1640م و 1702 م.
المرحلة الرابعة : إنها مرحلة ما بعد " سنان
" المعماري، خلال القرن السابع عشر، فهي في حقيقة الأمر لا تضيف جديدا من حيث
التصميم. لكن هندسة مساجد وجوامع هذه المرحلة تعبّر عن رغبة في التفوّق ومنافسة
المساجد السابقة من حيث الضخامة والجمال الفني والإنجاز الفني. ومثال على ذلك
" جامع الأحمدية " في إسطنبول الذي شيّد في عهد السلطان أحمد الأول بين
عامي 1609م-1617م، وقد أحيطت به الحدائق وبرك الماء، وتقابله في الجانب الآخر " آيا
صوفيا " مفخرة العهد البيزنطي. وبهذا الجامع ست مآذن موزّعة على أركان الصّحن
والحرم.
أمّا مساجد المرحلة الخامسة و الأخيرة : فهي تعتبر آخر المساجد السلطانية
التي ظهر فيها تأثير التيارات الفنية الأوروبية التي أخذت تغزو إسطنبول وبقية مدن
العالم الاسلامي، حيث نجدها بارزة في بعض العناصر المعمارية والزخارف كالتّي
نشاهدها في الجوامع الحنفية بتونس وكذلك في التربات خاصة في " تربة الباي
" بالربض الجنوبي من مدينة تونس، وذلك بدءا من القرن الثامن عشر. وتمثل
هذه التيارات الغربية فنون عصر النهضة وخاصّة فن " الباروك " وفن "
الركوكو" التي امتزجت عناصرها بتقاليد العمارة الاسلامية. وقد تعدت هذه
التأثيرات إلى العمائرالمدنية مثل القصور والحدائق ودور الأعيان والأغنياء. بل وصل
الأمر إلى إرسال بعثة حكومية عثمانية إلى باريس، وآستقدم على إثرها مهندسون وفنّانون
للمساهمة في تشييد المباني السلطانية، ثم أرسلت فيما بعد بعثات للدراسة في " باريس " و"
برلين " : وقد عرفت هذه الفترة بعصر " التوليب la
tulipe- " (أي زهرة الزئبق).
ثم كان استعمال الإسمنت والعمارة الأوروبية وانتشارها في أنحاء العالم
الاسلامي.. وبذلك توقّف دور الفن الاسلامي الأصيل في العمارة رغم المحاولات العديدة
لابتكار مدرسة معمارية تجمع بين الأصيل والمعاصر.
* الجوامع الحنفية بمدينة تونس وطقوسها الدينية :
- مدخل تاريخي حول ظهور المذهب الحنفي بالبلاد التونسية:
نرى من الضروري - قبل الحديث عن
هاذين المعلمين كمثالين للطراز العثماني بتونس -
أن نقدّم مدخلا تاريخيا موجزا عن ظهور المذهب الحنفي (8) بالبلاد التونسية، ومحاولات الجيش الإنكشاري العثماني إنشاء جوامع على
قواعد مذهبهم الحنفي.
فظهور المذهب الحنفي بهذه البلاد لم يكن متزامنا مع مجئ الأتراك العثمانيين
ودخول تونس في طاعة الخلافة العثمانية سنة 1574م باعتبارها
إيالة من إيالاتها كما يظنّ البعض،وإنما كان أول المذاهب السنية إنتشارا بإفريقية
على يد القاضي الفقيه " أسد بن الفرات " (9) ،إلاّ أنّ " المعزّ بن باديس الصنهاجي " (ت454هـ/1062 م) اتّخذ فيما بعد – ولأسباب
سياسية- قرارا يحمل أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك، وبذلك حسم – منذ ذلك
التاريخ- الخلاف بين المذاهب، ولم يعد المذهب الحنفي للبروز من جديد إلا بحلول
العنصر الفاتح المنتصر من العثمانيين الأتراك الذين طردوا الأسبان، وأنهو بذلك
فترة الحكم الحفصي.
وقد حرص الجيش الانكشاري العثماني على إنشاء مساجد وجوامع على قواعد مذهبهم
الحنفي، إلى جانب وجود الجوامع والمساجد المالكية.
وفي انتظار إستقرار الأوضاع
الأمنية والسياسية وتثبيت أسس الدولة الجديدة، اتّخذ الأتراك العثمانيون أول الأمر
جامع القصبة لإقامة الشعائر على المذهب الحنفي (10) نظرا لوجود هذا المعلم بالقصبة مقرّ حكمهم وحول مساكنهم ومعسكراتهم. وبعد
تراجعهم في تحويل جامع الزيتونة من المذهب المالكي إلى المذهب الحنفي، اكتفوا
بتحويل جامع" القصر " (11) بباب منارة جامع خطبة على المذهب الحنفي .
ولما إستقرّت الأوضاع السياسية والعسكرية، شرع الأتراك في إنشاء جوامع
حنفية تميّزت عن مثيلاتها من الجوامع المالكية من حيث الخصائص المعمارية
والزخرفية، وكذلك الطقوس الدينية.
وقد وصلت جملة الجوامع الحنفية
التي تمّ إنشاؤها بمدينة تونس إلى خمسة جوامع هي حسب التسلسل الزمني : جامع يوسف
داي ( أو الجامع اليوسفي)،
جامع حمودة باشا المرادي، جامع محمّد باي المرادي والمعروف لدى العامّة بجامع سيدي
محرز، ثمّ الجامع الجديد (أوجامع الصبّاغين) وهو جامع مؤسس الدولة الحسنية حسين بن
علي (1705 م)، وأخيرا جامع يوسف صاحب الطابع
بالحلفاوين بالربض الشمالي باب سويقة.
وقد امتازت هذه الجوامع بضخامتها وفخامتها وتخطيطها وزخارفها وعناصرها
الجديدة الملحقة بها في المصلّى وفي الصحن وذلك مثل " المحفل "
و" الختمة " و" المنبر المبني " االمكسو
بالرخام، إضافة إلى وجود " تربة " أو تربتين داخل حرم الجامع :
الأولى للمؤسس وأفراد عائلته وخاصّته من الرجال، والثانية للنساء والأطفال.. مع
إدخال طقوس دينية خاصة بها تمارس يوميا في الصلوات الخمسة وفي صلاة الجمعة وكذلك
في المناسبات الدينية كالأعياد ورمضان والأشهر الحرم والمولد النبوي الشريف
وعاشوراء والرغائب والنصف من رجب والثامن والعشرين منه، والنصف من شعبان والسابع
والعشرين منه، وعرفه..
1- جامع يوسف داي المرادي(1021هـ/ 1612م) :
ويسمى أيضا "الجامع اليوسفي" أو "جامع سيدي يوسف"
وكذلك "جامع البشامقية" (12) أسّسه "يوسف داي" الذي حكم البلاد التونسية من سنة 1610 م إلى غاية سنة 1637 م ، وهي فترة طويلة من الحكم دامت سبع وعشرين سنة
عرفت البلاد خلالها عهدا من الأمان والإزدهار الإقتصادي والعمراني. وقد إستفاد هذا
الداي من غنائم "الجهاد البحري" وكذلك من هجرة الأّندلسيين بعد طردهم من
الأندلس على موجات متتالية، حيث أدخلوا عدّة فنون وصنائع في ميادين البناء واللباس
والأطعمة والفلاحة وغيرها من الحرف والمظاهر الحضارية التي طبعت الحياة الإجتماعية
والحضارية للبلاد التونسية.
فهذا الجامع الذي شيّد في هذه الظروف هو أول جامع حنفي رسمي بناه
العثمانيون الأتراك بمدينة تونس، وكان ذلك في 22 من رمضان 1021 هجري الموافق لـ 14 اكتوبر 1612 م كما نصّت عليه نقيشة الجامع.
لذا اعتبر مثالا نموذجيا لبقية
الجوامع الحنفية التي تم تشييدها لا في مدينة تونس فحسب وإنما في عديد المدن
والقرى التونسية مع بعض الخصوصيات المحلية والجهوية في بعض العناصر المعمارية.
فقد أحدث طرازه الهندسي الجديد تغييرا في التقاليد المعمارية التي كانت
سائدة إبان العهدين الأغلبي والحفصي ، وبالتالي أضحى مدرسة معمارية لها
خصائصها وطابعها المميّز بنمطه الشرقي العثماني، وشاهدا حيّا لتيار معماري جديد
بالبلاد التّونسية.
يتوسّط هذا المعلم الديني العريق جامعي الزيتونة والقصبة، وكذلك حيّ او
مجمّع سكني واقتصادي تركي جديد يحوي مجموعة من الأسواق وهي : سوق " البشامقية
" وسوق " البركة " وسوق " الباي ".
وقد رتّب له مؤسّسه العديد من الأوقاف والوظائف لخدمة هذا المعلم الديني،
وهو ما يشير إلى كثافة نشاطه الديني والعلمي وكذلك الإجتماعي الذي كان يحفل به
والإشعاع الذي بلغه هذا المعلم الحنفي والذي نافس به جامع الزيتونة القلب النابض لمدينة
تونس.
فمن خلال اطّلاعنا على وقفية
الجامع المؤرخة في آخر محرم 1041هـ / آخر شهر أوت من سنة 1631 م، فإنّ عدد الموظفين والعمال في هذا الجامع قد بلغ
واحد وأربعين، يتقاضون رواتب شهرية ومناسبتية كل حسب مهامه ودرجته كما هو مفصّل في
وقفية الجامع :
فإلى جانب المكافآت اليومية والأسبوعية التي
تعطى لقرّاء الختمة الذين بلغ عددهم الثلاثين قارئا، حيث يتلقّى كل واحد منهم
ناصري واحد، وبمناسبة الأشهر الحرم: رجب، شعبان ورمضان، فإنّ راوي صحيح البخاري
والسيرة النبوية يتلقى ثلاثون دينارا. أمّا مؤدب الكتّاب التابع لهذا المجمع
الديني فإنه يؤجّر من مداخيل كراء الحانوت التي تحت الكتّاب..إضافة إلى أحباس
قرّاء تربة ابنه " محمّد " الذي توفي في حياته، وكذلك أحباس لفائدة
المدرسة التي أنشأها يوسف داي وذلك من مداخيل المركّب التجاري قرب " سوق السكّاجين
".. وغيرها من الأوقاف التي حبّست على الجامع اليوسفي مثل الحمّامات ودور
السكن والأراضي الزراعية والزياتين في أحواز تونس وبلد "سليمان"
و"رأس الجبل" و"طبربة" و"نيانو" و"بني
خلاد".
والملفت للإنتباه – ونحن نتحدّث عن العمارة العثمانية في تونس، هو أنّ
تأسيس هذا الجامع كان سببا في العديد من الإحداثيات العمرانية في أماكن كثيرة من
مدينة تونس وبالخصوص في حي القصبة الذي كان عبارة عن أكداس من الخرائب، وكذلك في
الأسواق الرئيسية بالمدينة التي وقع النهوض بها وتنظيمها وتنشيطها، كما أحيت أحباس
الجامع بعض الأراضي الفلاحية في أحواز المدينة ومناطق أخرى استقرت بها الجالية
الأندلسية مثل "تستور" و"زغوان" و"السلوقية"
و"طبربة" و"نيانو" و"رأس الجبل" و"ماطر".
- أما عن تصميم
الجامع :
فيمكن القول أنّ هذا المعلم قد
أنشئ فوق منحدر بحي القصبة، وهو من صنف الجوامع المعلّقة حيث تمّ البناء على مسطّحة
مرتفعة، ووقع إستغلال المستوى الأسفل من هذه المسطّحة لإيواء العديد من الحوانيت
على الجهتين الشرقية والشمالية التابعة لسوق البشامقية.
وكان للجامع في عهد تأسيسه ثلاثة أبواب خارجية : واحد من الجهة الشمالية وبابين جانبيين. ثم أضيف له فيما بعد بابان ، الأول بين التربة والصومعة، أما
الثاني فهو حديث العهد ويرجع تاريخه إلى سنوات السبعينات من القرن الماضي حيث تمّ
فتحه في السور قرب الركن الشمالي الغربي للمعلم. وهذه الأبواب الخارجية الخمسة
تؤدي مباشرة إلى أروقة الجامع التي تحيط بقاعة الصلاة من الجهات الثلاثة. ويترواح
عرض هذه الأبواب بين 1,60 متر و1,33 متر. وقد زيّنت مصارعها الخشبية بأشكال زخرفية مسمّرة،
وهي محوّطة في إطار مستطيل من الحجر الكلسي مع إطار ثان من "حجر الحرش"
(Engrés Coquille - حجر رملي) .
كما نلاحظ وجود حوامل منغرسة على مستوى الساكف، وهو ما يشير إلى أن هذه
الأبواب كانت محمية بأطناف تقيها من الأمطار وأشعة الشمس.
كما لفت إنتباهنا ساكف الباب
الغربي المزخرف بنماذج زهرية بارزة. أمّا الباب الثالث فهو يفتح على الجهة
الشمالية في إتجاه محور المحراب، وهو يتقدّم درجا عال بإثني عشر درجة لتنتهي إلى
مستوى المسطّحة التي تحمل المعلم. هذا وتوّج إفريز من القرميد كامل الباب ممّا
أضفى عليه مسحة من الجمال.
وعن الباب الرابع الذي يقع بين المئذنة والتربة فهو يمثل نفس المقاييس
وكذلك زخارف الباب السالف الذكر.
أمّا الباب الخامس لهذا الجامع الحنفي فهو آخر مداخل هذا المعلم لكنه في
حقيقة الأمر وقع فتحه في السنوات الأخيرة، قرب الركن الشمالي الغربي لهذه العمارة، فهو
شبيه في شكله وزخارفه بالباب الثاني.
وفي آخر الساحة الجانبية من الجهة
الشرقية توجد قاعة كبيرة بلغت مساحتها حوالي العشرين مترا مربعا خصصت لبيت إمام
الجامع، وهي تتصل مباشرة بقاعة الصلاة عن طريق باب عريض مؤطر بالحجر الكلسي
الفاتح، أما الرواق الذي يسبق بيت الإمام فإنه يعتمد على الحيطان وعلى عمود من
الرخام الأبيض المزدان بتاج جميل من نوع الإسباني- المغربي(hispano-maghrebin). ويغطى هذا الرواق سقف خشبي ذو
عوارض أفقية بارزة، ومتوّج بكامله بإفريز يتكوّن من صفوف القرميد الأخضر. كما يأوي
هذا الرواق محرابا خارجيا مكسوا بالرخام، يقع استعماله في أيام الصيف الحارة.
أمّا آخر
الساحة الجانبية الغربية فقد أوت تربة سماوية شبه مربعة خصصت لأفراد عائلة المؤسس
من النساء والأطفال ، بلغت مساحتها
الجملية حوالي 56 مترا مربعا ( 8 م × 7م). وقد وقع فصل هذا المكان الجنائزي عن هذه الساحة
بواسطة حائط عازل يتوسطه باب متواضع يفتح على التربة ويفصلها عن هذه الساحة
الجانبية في الجهة الغربية.
أمّا بيت الصلاة : فهي مستطيلة الشكل إذ
بلغ طولها قرابة 27 مترا مع عرض وصل إلى حدود 25 مترا. وقد سقّفت بأقباء متقاطعة (voutes croisées) ما عدا بلاطة المحراب، وذلك من غير دعامات للسقف.
هذا وقد بنيت الأقباء بقطع من الحجارة المترابطة بالملاط المكوّن من خليط من جير
الصّوان المصفّى والرمل الأصفر.
أمّا القبّة الوحيدة للمصلّى - والتي يبلغ
ارتفاعها حوالي 9 أمتار- فإنها تأوي البلاطة التي
تتقدم المحراب، وهي ترتكز بدورها على ثلاث
دعامات، إضافة إلى رابعة أدمجت في حائط القبلة. وقد زيّنت طاستها بزخارف جصية
محفورة تسمّى لدينا بـ" نقش حديدة "، إلى جانب نموذج نجمي على قمة
الطاسة.
وعند الأركان، تتعاهد الأقباء – التي تغطي
قاعة الصلاة- مباشرة على الجدران السميكة التي يصل عرضها إلى 1,60
مترا، وذلك بدون أن تستند على الأعمدة أو القناطر أو
العمادات.
هذا وتستمدّ بيت الصلاة إضاءتها بواسطة نفاذ الضوء الطبيعي من خمسة نوافذ
كبيرة مفتوحة في جدرانها العريضة والتي يبلغ عرضها حوالي المتر(0,95 م) وارتفاعها 1,70 مترا ، وهي شبيهة بالأبواب (Porte
- fenétre) ، مؤطرة بالحجر الكلسي ذو اللون
الفاتح حيث يتمّ غلقها بواسطة مصارع خشبية.وهذه النوافذ هي عبارة عن كوّة مستقيمة
تحت عقد موتور(arc sur baissé)، إضافة إلى وجود فتحات صغيرة مقوسة في أعلى الجدارن
تساهم بدورها في إضاءة وتهوئة القاعة.
ويتألّف مخطط المصلّى من ست بلاطات موازية
لجدار القبلة تحتوي على ثمانية وأربعين عمودا، وهي متنوعة في أصولها حيث تراوحت
بين العصور القديمة وعهد إنشاء الجامع أي بداية القرن السابع عشر ميلادي، وبالتالي
تنوعت مادتها من حجرية كلسية على رخام أبيض مرورا بالغرانيت (Le granit)
أو الصوان. مع الملاحظ أنها مختلفة الأحجام والأطوال والتيجان (كورنتية
وعثمانية...)
كما نلاحظ أن البلاطة الوسطى وبلاطة المجاز
المكوّن من الأساطين الممتدة (Travées) على جدار القبلة ، أكثر اتّساعا من بقية البلاطات
الأخرى.
- أمّا المحراب : فهو في
شكل كوّة نصف دائرية في وسط حائط القبلة، غائر في الجدار بمقدار 1,60 مترا، بلغ إرتفاعه 3 أمتار وعشرين صنتيمترا، تعلوه نصف قبة مكسوة بنقائش
جصية جميلة و شرائط مزدانة بمعينات تنتهي في قمّتها بنجمة، وهي تذكرنا بالأخاديد
التي تؤثّث عقود المحاريب الإفريقية.
- كما لفت إنتباهنا الزخرفة الجصية لباطن العقد ( قنطرة
نصف القبة ) التي تميّزت بشريطين : الأول يحوي زخارف زهرية غصنية، أمّا الثاني فهو
يحمل حلية من الخطّ المغربي الجميل نقرأ فيها قوله تعالى - بعد بسم الله الرحمان
الرحيم - : " شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ،
قائما بالقسط ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. " (آل
عمران/ 18).
ويفتح هذا المحراب على عقد نصف
دائري متجاوز(Arc en plein cintre ) تزيّنه مفاتيح ثنائية اللون" أبيض – أسود
". كما يعتمد هذا المحراب على سويرتين (colonnettes) ذات تيجان حفصي، وهو محوّط بإطار
عريض يتكوّن من صفائح رخامية بيضاء، وكلّه محاط بشريط أسود من قطع خزفية، أمّا
الجزء السفلي من المحراب، فقد كسي بتسعة عشر صفيحة رخامية طويلة.
- المنبر
المبني : وهو العنصر العثماني البارز والأصيل داخل المصلّى بخلاف
المنبر الخشبي المتحرك الذي نجده بشكل خاص في جوامع المغرب العربي. فهذا المنبر
العثماني مكسو بقطع الرخام الناصع البياض، إلى جانب الزخارف الرخامية المرصّعة
بأشكال هندسية ونباتية ذات ألوان متعددة يتمّ إدخالها في الأرضية الرخامية عن طريق
التنزيل (Le marble incrusté) توزّع بشكل متوازن عبر تقنية التكرار العادي حيث
تتكرّر الوحدة الزخرفية على نحو متواصل في وضع ثابت متناوب متتالي، إلى جانب
التكرار المتبادل المتمثل في استخدام وحدتين زخرفيتين مختلفتين في تعاقب. وقد تطور
هذا الفن عن طريق الحرفيين الإيطاليين المتخصصين في فن الرخام، وسوف يتعزّز حضور
هذا الفن في الفترة الحسينية في الجوامع الحنفية وكذلك في التربات.
يرتفع هذا المنبر المبني حوالي ثلاثة أمتار، ويصعد إلى قمته بواسطة درج يضمّ
عشر درجات، وقد زيّن أسفله بكوّة مرتكزة على سويرتين رخاميتين متعددة الزوايا ذات
تيجان حلزونية (Voluté) .
وتحت هذه الكوّة مأطورة (Panneau) مقوّسة تحمل نصّ الشهادة: "
لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
وفي قمّة المنبر يستعمل آخر درج
كمنبر للإمام الخطيب، تعلوه سرادق (Pavillon) محمول على أربع سويرات رخامية
حلزونية.
-
المحفل : أو السدّة ، وهي
عبارة عن منصّة خشبية مرتفعة ، مربعة الشكل (3,50 م على 3,45 م ) ، وبعلو
2,45م ، محاطة بدربزين بارتفاع نصف متر. أما موقع المحفل فهو في واجهة المحراب،
ويتمّ الصعود إليه بواسطة درج خشبي صغير.
وعلى هذا المحفل يقوم " الخوجات " (13) بجملة من الطقوس الدينية على نحو ما هو معمول به في عادات الجيش الإنكشاري
العثماني الذي حلّ بالبلاد التونسية، حيث يصعد هؤلاء الخوجات وكذلك مرتلو القرآن
الكريم قبل وبعد الصلاة بقليل لترتيل مجموعة من الآيات القرآنية وترديد بعض
التسابيح والأدعية وإقامة الصلاة. ويكون على رأس هؤلاء " باش خوجة "
يقوم بالإشراف عليهم وتنظيم نشاطهم الديني بالجامع حسب طقوس معينة (14) وفق شروط الواقف.
- الختمة: وتسمّى أيضا في المشرق "
كرسي المصحف " ، حيث يتواجد عادة بالجوامع، ويكون في وسط قاعة الصلاة لترتيل
آيات من القرآن الكريم مرتبة حسب المصحف في الصلوات المفروضة وكذلك في المناسبات
الدينية. كما يتمّ ختم قراءة القرآن عادة في كل يوم جمعة. والختمة تتكوّن من كرسي
المرتل ومن صندوق أمامه يفتح من فوقه على مصراعين لفتح المصحف وتلاوة ما تيسّر منه
، ثمّ يتمّ حفظه بداخله بعد غلق المصراعين. والملفت للانتباه أن واجهات هذا
الصندوق مغلّفة بقطع من النحاس الأصفر كتب عليها بالخط الكوفي المضغوط على النحاس
: إسم المؤسس وتاريخ صنع الختمة وصانعها وكذلك وقفية الختمة والمرتلون .
-
المئذنة : أقيمت المئذنة
في الركن الشمالي- الغربي من هذا المعلم ، حيث بلغ إرتفاعها أكثر من 22 مترا. وهي أول صومعة (15)
حنفية تميّزت بشكلها المثمّن وبجامورها الخشبي المزركش
بالأشكال الهندسية والألوان الزاهية، بخلاف صومعات الجوامع المالكية المربعة الشكل
مع بساطة زينتها. وهذا النوع من الصوامعات
هو من تأثيرات الطابع الشرقي لآسيا الصغرى . وقد شيّدت هذه الصومعة المثمّنة على قاعدة حجرية مربعة (4,50 م على 4,50 م).
أمّا المسطحة (plate forme) المكونة للشرفة التي تتوج الصومعة، فهي تستند على
المدماك الأول (Rangée de pierres) الذي يحتوي على ستة عشر حاملة (Modillon)
منحوتة على الحجر الكلسي. وقد غطت الصومعة بمنوّر(Lanternon) مثمّن ذو سقف مثمّن مغلّف بصفائح
من الرصاص. وقد توّجت آخر الصومعة بجامور يتألف من عمود يحمل شكل هلال (16) وثلاثة كرات نحاسية.
- التربتان : إنّ ظاهرة جديدة قد أدخلت على
عناصر الجامع بالبلاد التونسية تتمثل في إقامة تربتين داخل حدود الجامع الحنفي،
وهي في الحقيقة عادة ابتكرها السلاجقة واقتبسها العثمانيون الأتراك، تتمثل في
إنشاء مبنى معماري خاص فوق القبر أو القبور ذات قباب مختلفة الأشكال والزخارف.
وقد احتوت جلّ الجوامع الحنفية على تربتين:
الأولى تأوي ضريح المؤسس وأفراد عائلته أو
أقاربه او المقربين من الرجال. وتربة يوسف داي مربعة الشكل (حوالي 7 امتار على 7 امتار)، مسقوفة بقبّة هرمية مغطاة
بالقرميد الأخضر الأندلسي، أمّا جدرانها فقد كسيت بالرّخام الأبيض الفاتح على ارتفاع
ستة أمتار تقريبا من أرضية التربة، وقد علتها قطع من الرخام الأسود. كما نلاحظ أنّ
نفس هذه الكسوة تتكرّر على الجدران الداخلية للتربة مع إضافة عمودين في كل ركن من
أركانها. هذا وقد فرشت أرضيتها بمربعات الجليز الصغيرة(ضلع 10 صنتيمترات).
تضمّ هذه التربة إثنا عشر ضريحا يتوسّطها ضريح "يوسف داي" مؤسس
الجامع والذي تميز بزخارفه الرخامية الغنية بالوحدات الزهرية والنباتية. والملفت
للإنتباه هو أنه توجد ثلاثة أضرحة لنساء في هذا المكان رغم أن التربة مخصصّة لدفن
الرجال: ضريحان يحملان كل منهما شاهدا رخاميا مربعا، أما الضريح الثالث فهو يحمل
نقيشة جنائزية للمساماة " فاطمة ابنة يوسف داي " التي توفيت سنة 1063هـ/1663م.
أما التربة الثانية الموجودة في الركن الجنوبي الغربي من الجامع، فهي مخصّصة
للنساء والأطفال، سماوية تفتقر لأدنى نوع من الزخارف ، لكنها مسوّرة ولا يفصلها عن
الرواق الغربي إلا باب بسيط وسط هذا السور.
وخلاصة القول
: أنّ عمارة
جامع يوسف داي بمدينة تونس أضحت مدرسة معمارية فريدة من نوعها، أدخلت نمطا معماريا
يمتاز بطابعه العثماني المتفتح على بعض التقاليد المعمارية المحلية، وهو نمط سوف
يتكرّر في بقية الجوامع الحنفية الأخرى ما عدا جامع "محمد باشا باي" ذو
الطراز الاستنبولي.
وهذه الجوامع الذي تعتبر نسخة مطابقة لجامع يوسف داي هي - حسب الترتيب
الكرونولوجي - :
2- جامع حمودة باشا (1099هـ/1655م)، قرب جامعي يوسف داي والزيتونة، والذي يفتح على سوقي الشواشية الكبير
والصغير، بنهجي سيدي بن عروس والقصبة.
3- جامع حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية (1139ه/1727م)، والذي يعرف بالجامع الجديد بالصباغين بربض باب الجزيرة.
4- وأخيرا جامع الوزير يوسف
الطابع (1229هـ/1814 م) : بالربض الشمالي من المدينة
وهو ربض باب سويقة. هذا المعلم الحنفي هو آخر جامع حنفي تمّ تشييده بمدينة تونس قبل دخول الاحتلال
الفرنسي للبلاد التونسية سنة 1881م.
-5جامع أبو عبد الله محمد باشا باي (1694م):
إنّ إنشاء معلم بهذه الضخامة يندرج في إطار تجديد وتهيئة حي باب سويقة قي
الربض الشمالي من مدينة تونس. وقد شرع في بناء الجامع نهاية القرن السابع عشر
ميلادي (17) الذي تزامن مع استيطان يهود القرنة (Livourne) في حارة الحفصية وكـذلك إنشاء
سـوق " القرانة ". وتشير وقفية الجامع (18) إلى أنّ " محمّد باي " أمر ببناء العديد من دور السكن والحوانيت
والمخازن والطواحين والحمّامات والفنادق.. حول حارة اليهود التي تميزت بنشاطها
التجاري والاقتصادي، وهو ما ضمن مداخيل ذات أهمية لتغطية حاجيات المعلم من صيانة
وإحياء النشاط الديني اليومي والموسمي إضافة إلى رواتب المنتفعين و المشرفين عليه،
حيث وصل عددهم إلى خمس وخمسين كما يوضّحه هذا الجدول الضابط للوظائف المرتبطة بجامع "محمّد باي"
والرواتب المخصّصة لهم :
العدد
|
الوظيفة
|
الراتب
بالناصري
|
1
|
إمام
الخمس صلوات
|
6
في اليوم
|
1
|
إمام
خطيب
|
5
|
4
|
مؤذنون
أحناف
|
2
|
1
|
شيخ
المؤذنين الأحناف
|
3
|
1
|
معرّف
|
2
|
2
|
قارئان
قبل صلوات الصبح والظهر والعصر
|
2
|
1
|
قارئ
سورة "الملك" بعد صلاة الصبح
|
2
|
1
|
قارئ
سورة "يس" بعد صلاة العصر
|
2
|
1
|
وكيل
|
5
|
11
|
مؤذنون
مالكيون
|
1
|
1
|
شيخ
المؤذنين المالكية
|
2
|
4
|
وقّادون
في الجامع والتربتين
|
3
|
1
|
مدرس
الحديث بعد صلاة الصبح
|
8
|
1
|
راوي
الحديث بعد صلاة الصبح
|
3
|
1
|
مدرس
حنفي بعد صلاة العصر
|
8
|
10
|
طلبة
أحناف
|
|
1
|
مدرّس
مالكي بعد رواية الحديث
|
8
|
10
|
طلبة
مالكيون
|
|
1
|
مجوّد
|
3
|
- كما أنّ وقفية جامع محمد باي
تنصّ أيضا على عطاءات أخرى بصفة دورية، من ذلك منح ثلاثين من مرتلي القرآن كل يوم
جمعة في الجامع المذكور خمسة عشر ناصري وثلاثة نواصر لموزّع نسخ القرآن الكريم على
هؤلاء القراء وكذلك ثلاثة نواصر لكل قارئ من قرّاء تربة الرجال بهذا الجامع.
- وحول أعمال البناء : قدّم لنا الوزير السرّاج (19) المعاصر لهذا الحدث، بعض المعلومات الهامّة والدّقيقة في كيفية إنجاز هذا
العمل الرائع الذي حقّق نقلة نوعية ثانية في حضور العمارة العثمانية بمدينة تونس،
وجعل من هذا المعلم الفريد تحفة معمارية هيمنت بجمالها وعظمتها على كامل الربض
الشمالي لمدينة تونس، فقد ذكر السرّاج في
" الحلل السندسية " :
" من أنّ محمّد باي أنشأه على أسلوب فخيم ونمّقه بالرّخام الخالص والمرمر
الفاخر وأنواع عجيب الجلي. وجاء من أسلوب لم يعهده مثله من الناحية الغربية شكلا
وحلاوة منظر.." .
وحول موقعه البارز الذي أضفى عليه هيبة وبهاء أشار الوزير السراج أنّ
الجامع "...جاء مرتفع السمك بحيث يظهر على البعد من تونس بنحو خمسة عشر ميلا
(أي حوالي 25 كلم)، بحيث ما من مكان تظهر منه
مدينة تونس برا وبحرا إلاّ وهو السابق إلى الناظر من قبل أرفع الصوامع
وأعلاها...".
وهذا
المعلم الديني الحنفي له ميزة معمارية فريدة من نوعها قطعت مع الأنماط المعمارية
السابقة وبشكل جلي مع التقاليد
المعمارية المحلية. ويمكن القول أن هندسة هذه العمارة الدينية مستوحاة من هندسة
جوامع إستنبول وهو يذّكرنا بجامع شاه زاده (1544م ) (20) وجامع السلطان أحمد (1616 م) :
فقاعة الصلاة هي عبارة عن مربع كبير (طول الضلع 28 مترا) تغطيها قبّة مركزية يقارب قطرها الستة عشر
مترا ، مع إرتفاع تسعة وعشرين مترا، ترتكز على الحنايا الركنية كما هو معمول به في القباب التقليدية
المحلية أو
على مثلثات كروية أو أنصاف
قباب (Pendentifs)
كما في جلّ قباب جوامع إستنبول. وتحتل
أركان القاعة قباب صغيرة أو قبيبات (coupolettes) وهو أسلوب هندسي من شأنه أن يستغني عن
الأعمدة العديدة التي تغطى عادة مساحة المصلّى في الجوامع المالكية ،الأمر
الذي يجعل رؤية المحراب ومنبر الخطيب أفضل ممّا هو عليه في التخطيط القديم لعمارة
المساجد.
كما نلاحظ وجود العديد
من النوافذ والفتحات في رقاب القباب الصغيرة وكذلك في بواطن العقود ليتسرّب الضوء
في كل أنحاء بيت الصلاة.
ونجد في مؤخرة
المصلّى ما يسمى " بالمحفل " وهو عبارة عن سدّة خشبية أعدّت
لـ"خوجات" الجامع الذين ينشدون المدائح ويرتلون الأذكار والأدعية
ويقيمون الصلاة ويردّدون التسابيح حسب طقوس معينة ، وهي
من سمات النظام العسكري لفرقة الإنكشارية
بالجيش العثماني.
كما امتاز هذا المعلم
أيضا بمنبره المبني الكبير الذي بلغ إرتفاعه أكثر من أربعة أمتار،ارتكز على قاعدة
مستطيلة (5 أمتار على متر) ، وقد
كسي بألواح رخامية وطرز بأشكال هندسية من الرخام الملوّن(21).
وفي وسط المصلّى نجد
" الختمة "
التي تتألف من كرسي خشبي يجلس عليه المرتل وأمامه صندوق لحفظ نسخة من القرآن
الكريم، وقد إزدانت واجهاته الأربعة بزخارف نحاسية مكتوبة بالخط الكوفي الجميل.
أما جدران وبلاطات
الجامع فقد كسيت بمربعات القاشاني المزدانة بأشكال نباتية هيمن عليها اللونان
الأزرق الفيروزي والأخضر،
وقد وقع جلبها خصيصا من مدينة " إزنيق " التركية التي أشتهرت بصناعة هذا الخزف
الرفيع... كما لفت إنتباهنا أيضا ثراء الأشكال والزخارف المتنوعة مثل النقش على
الجص المعروف بنقش حديدة، وكذلك النصوص الخطية المدوّنة بالخط الكوفي الملوّن.
وتحيط بالمصلّى - ما
عدا جدار القبلة - ثلاثة
أروقة ترتكز بدورها على دعائم رخامية رشيقة.
أمّـا الصومعة فلم
يتم بناؤها ووقع تعويضها بعد مدة طويلة من وفاة المؤسس وأخيه " رمضان
باي " (1696
م-1697 م) بمئذنة متواضعة مربعة الشكل وهي في حقيقة الأمر مئذنة مسجد
" الفيلاري "
وهو مسجد مالكي يأوي ضريح الشيخ الفلاري الذي يقع في أسفل الركن الغربي من الجامع.
ومن المؤسف أنّ
هذا الطابع المعماري الاستنبولي الرائع بقي "يتيما" فريدا من نوعه في هذا المعلم الديني الحنفي
الضخم ولم يقع تكرار طرازه في جوامع أخرى
سواء بمدينة تونس أو بجهات أخرى من البلاد التونسية .
* الطقوس الدينية بالجوامع الحنفية :
لما استقرّ الجيش العثماني بالبلاد
التونسية - وكان عدد عساكرهم بها أربعة آلاف من الأنكشارية- حرصوا على ممارسة
شعائرهم وطقوسهم الدينية على نحو ما هو معمول به بالسلطنة العثمانية التي تتّبع
المذهب الحنفي. ولكن الملفت للانتباه أنّ هذه الطقوس طبعت في حركاتها وتناسقها بطابع
عسكري صارم وبديع يشدّ الانتباه ويزيد من هيبة الحضور الرّوحي ويذكّرنا بصلابة
وشجاعة فرقة الإنكشارية نخبة الجيش العثماني الذي أرعب الجيوش الأوروبية وأوقف
زحفها على العالم الإسلامي لعدة قرون..
فإلى جانب اتّخاذهم لمحافل يصعد
لها الحفّاظ عند حضور وقت الصلاة لترتيل آيات الذكر الحكيم، يسمّونهم في إصطلاحاتهم
بالخوجات(22) يكون على رأسهم الباش خوجة. وهؤلاء الخوجات لهم
قوانين ضابطة لدى ممارساتهم الطقوس الدينية قبل وبعد أداء الصّلاة المفروضة . وقد أشار
المؤرخ التونسي محمّد بن الخوجة في مؤلفه - تاريخ معالم التوحيد في القديم
والجديد- أنّه : " من أحسن ما كتب في ذلك رسالة لطيفة لأحد المتأخّرين من
الخوجات وهو الحافظ الشيخ الكيلاني بن الطاهر أسماها " قانون الخوجات
بالجوامع الحنفية "، ضمّنها كل تالد وطريف من أحوال هذه الصناعة ".
ومن تلك الممارسات الطقسية كيفية أعمال الخوجات
عند إقامة الصلوات الخمس، وعند حضور صلاة الجمعة : من ذلك أنّ الأهّاب(23) يصعد إلى صومعة الجامع بمعية الخوجات – قبل
خطبة الجمعة - لينشد مجموع عبارات منها قولهم " عجّلوا للصلاة قبل الفوت،
وبادروا بالتوبة قبل الموت، نصر من الله وفتح قريب، وبشّر المؤمنين. يا محمّد
". ثم يستغيثون جميعا بالنبي صلى الله عليه وسلم وينادونه: " يا رسول
الله " . ويختمون عملهم بالآذان، ثمّ ينزلون قاصدين المحفل لإقامة الصلاة،
وهذه يتقدمها تلاوة القرآن من المصاحف في المحافل بأصوات رخيمة، يتلوها الدعاء
للسلطان العثماني، مع ذكر اسمه، وللباشا أمير الديار التونسية بدون ذكر اسمه.
وقبل ابتدائهم في التلاوة يقرأ " الباش
خوجة " عبارة استهلال باللغة التركية نصّها:
" حصول مرادات حق ده أول
وآخر صلي صلواتنا صري فاتح أوق ين لرن آخر عاقبتي خير أولى"(24) .
ثم يستفتحون القراءة من
المصاحف، وإذا جاءت آية سجدة، نبّه عليها الباش خوجة باللسان التركي بقوله :
" سجدة آيات قلدي يا حاضر الن عزيزا ".
وعند ختام القراءة يتلو الباش خوجة قوله تعالى:
" ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم..الآية" ( الأحزاب / 40 ). .
ثم يقف ويقرأ من محفوظه تعريف يوم الجمعة، وهذه
عبارته بما اشتملت عليه من الألفاظ العربية والتركية والفارسية نقلا عن كتاب
" قانون الخوجات بالجوامع الحنفية " للشيخ الكيلاني بن الطاهر:
" بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم،
ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم أجمعين،
إنّه هو التّواب الرحيم، سبحان من أنزل القرآن على قلب سيدنا محمد بلسان عربي
مبين، وعلّمه علم الأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين، وباسط هزران هزاي،
صلي صلوات، تحف تحيات زكيات، ايثار صدر كائنات، وايثار فخر موجودات، سيد الأنبياء
والمرسلين، وسند الأصفياء والمتّقين، بلبل بستان حقيقت، اندل بلستان شريعت، شاه
صدر صفاء صفا، وماه بدر قباء وفاء معلى مزكى مجتبى مرتضى، رسول كبرياء وسرور
أنبياء جيب خداي. أصفى الصفا. أعني حضرة محمد المصطفى، صلى الله عليه وسلم، واصل
ومتواصل كردان. ودرود بي نهايه، وثناء بي غايه، كبر آل أولاد أتباع أشياع خصوصي
جهاريان فزين باك جوهر بلي بلبل بستان عرعر، شراغو مسجد محراب منبر، أبو بكر عمر
عثمان حيدر، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وأيد اللهم بالنصر والتمكين، حامي حمى
حرمك الأمين. حضرة باد شاه عالم، فرمان بني آدم، مولى ملوك العرب والعجم، باسط
الأمن والأمان، آفتاب دولة آل عثمان. سلطان البرين وخاقان البحرين. مصر والشام
والروم والعراقين، خديم الحرمين الشريفين، المعتمد على فضل مولانا الكريم المنان،
ألا وهو السلطان ابن نسل سلطان، مولانا السلطان محمد رشاد الدين خان خلد الله
سلطنته، وأبّد بالعدل مملكته وخلافته إلى انقضاء الدوران، بحق إنا فتحنا لك فتحا
مبينا(الفتح / 1 ) وينصرك الله نصرا
عزيزا(الفتح / 3 )، آباء أجداد، أوباد، فإنّ الجنّة هي المأوى وميسر كردان آمين يا
معين، يا مجيب السائلين، يا رب العالمين .." (25).
وعند انتهاء الباش خوجة من
قراءة هذا التعريف، يدخل الإمام الخطيب متطيلس الرأس، وأمامه الباش وقّاد، قاصدا
به المنبر، وعندئذ ينادي الخوجات بالصلاة، فيتنفّل الإمام بأربع ركعات، ثم يصعد
للمنبر، وهي ساعة مظنّة استجابة الدّعاء، فيبسط المصلّون أكفّ الضراعة لخالق السّماء
والأرض.
ثمّ يجلس الإمام على المنبر، فيؤذّن أحد
الخوجات، ثم يشرع الخطيب في قراءة خطبته الأولى، فالثانية، وهذه يضمّنها عبارات
الدعاء لأمير البلاد، ولعامة المسلمين.
بعد ذلك ينزل من المنبر مرتّبا
خطواته على حساب عبارات إقامة الصلاة، بحيث يكون وصوله لآخر درجة من درج المنبر
موافقا لعبارة التشهد بمحمّد رسول الله ، وما بقي من عبارات الحيعلتين(26) يقضيه فيما بين المنبر
والمحراب، وإذ ذاك تقام صلاة الجمعة على قواعد المذهب الحنفي .
وبعد الفراغ من الصلاة يقرأ الخوجات آيات الكرسي
والتسبيحات، ويختمونها بالدعاء سرّا بمشاركة الإمام والمصلّين، ثم ينزلون من
المحفل، ويتوجّهون للتبرّك والسّلام على الإمام بالمحراب.
-
أمّا في شهر رمضان، وعند إقامة
صلاة التراويح، ينبّه لها الباش خوجة بالعربية، ويختمها بالتركية، وهو أن يقول :
" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ
الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، سيد كائنات، صلوات
صلاة تراويح نيت أي لين أي إمام عزيزا ".
وبين الركعتين والركعتين يقول
بالتركية : " فخر عالم بشيرا صلوات ".
ويكون التنبيه لصلاة الوتر بهذه
العبارة التركية :
" سيدك اينات صلوات صلاة
وتر نيت أي لين اين إمام عزيزا ".
- وفي يوم عيد الفطر،
يكون عمل الخوجات - حسب التفصيل الآتي نقلا بلفظه من قانون الشيخ الكيلاني بن
الطاهر، حيث قال:
" ثم بعد التكبير، يستفتح
الباش خوجة القراءة بتلاوة آخر سورة المائدة من قوله تعالى: " وإذ أوحيت إلى
الحوارييّن.." ( المائدة / 111 )، إلى أن يستوفي السورة، فيرفع الخوجات عليه
عند تمامها، ثم بعد ذلك يديرون هذه الصلاة المباركة بينهم، وكيفية ذلك أن يقول
الباش خوجة : اللّهم صل على سرّ نكتة دائرة الوجود. ويسكت فيقول كاهيته: وسرّ نكتة
الله في كل موجود. ويسكت، فيقول الخوجة الثالث: صاحب التاج واللواء المعقود. ويسكت
فيقول الخوجة الرابع: والشفاعة العظمى والمقام المحمود. ويسكت، ثم يكملها الباش
خوجة فيقول: وعلى آله وأصحابه، وهنا يتحول إلى طبع رصد الذيل، فيرفع الجميع
بقولهم: ما تقرّب إلى الله بالركوع والسّجود. ويسكتون، فيقول الخوجة الثاني: سبحان
ربّك ربّ العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين( الصّافات
/ 180 ). وإثر ذلك يقوم الباش خوجة لقراءة تعريف يوم العيد وعبارته: بارك الله
فيكم، أحسن الله إليكم، طيّب الله روائح أنفاسكم، ورضي الله تعالى عنكم، وعن
أستاذيكم، وعن كافة المسلمين أجمعين، شاه صدر صفاء صفا. ومن هنا إلى آخر تعريف يوم الجمعة نصّا سواء
بيد أنّه يقول في آخره : " ومبارك وقت شريف عيدره مكان جمعائره ".
وبعد ختم التعريف المذكور يقف
جميع الخوجات ويستدرون كالحلقة ويبدأ باش خوجة الأهّاب الخاص بصلاة العيد فيقول:
الصلاة. ويسكت، فيرفع ال. ثمّ يقول الخوجة الثاني: " يا مولاي ليس العيد لمن
لبس الجديد، إنما العيد لمن تاب ولم يعد ". ويسكت فيرفع الجميع بقولهم: "
الله الصلاة ". ويسكتون فيقول الخوجة الخامس: " الصلاة والسلام عليك يا
نور عرش الله ". فيرفع الجميع بقولهم: " عرش الله يا رسول الله ".
ويسكتون فيقول الباش خوجة: " وصلّي وسلّم على أشرف جميع الأنبياء والمرسلين
والحمد لله ". ويسكت فيرفع الجميع بقولهم: " ربّ العالمين يا كريم الله
جلّ وعلا، الفاتحة "، ويقرؤونها سرّا. ثم يستقبل الباش خوجة القبلة وينبّه
على صلاة العيد باللغة التركية.. ثم يقيمون الصلاة جميعا ويشرع الإمام في صلاة
العيد. وبعد تمامها يرتقي الإمام المنبر لقراءة خطبتي العيد، وعند انتهائه يقرأ
الباش خوجة آية الكرسي(البقرة / 255) ، ثم يختم التلاوة بقوله: " اليوم يغفر
الله لكم وهو أرحم الراحمين " اهـ ( يوسف / 92 ).
- وعمل الخوجات في صلاة عيد
الأضحى كعملهم في عيد الفطر، لا فرق بينهما إلا في التلاوة، فإنّ الخوجات
يقرؤون من القرآن الآيات المناسبة لها منها قوله تعالى: " وإذ بوّأنا
لإبراهيم مكان البيت.." إلى قوله: " وبشّر المحسنين " ( الحج / 26)
. وبعد الأهّاب يقرأ الباش خوجة: " الحجّ أشهر معلومات.." إلى قوله : "
واتّقون يا أولي الألباب "(البقرة /197). ويتلو كاهيته بقوله: " ليس
العيد لمن تعب وعنى، إنما العيد لمن أصبح بمنى". ويقول الخوجة الرابع: "
ليس العيد لمن ركب المطايا ، إنما العيد لمن تقبلت منه الضحايا". ويقول
الخوجة الخامس: " ليس العيد لمن حلق و نحر ، إنّما العيد لمن حجّ واعتمر. ثم
يختمون عملهم على نحو ما سبق بيانه بعيد الفطر " اهـ.(27).
هذا ومن المعلوم أنّ الخطبة
كانت تقع باسم السلطان العثماني وفقا للفرمانات السلطانية التي كانت ترد بتقليد
الولاية للبايات في الدولة المرادية وفي الدولة الحسينية فإن كان فرمان منها كانوا
يشترطون فيه ضرب السكّة والخطبة باسم السلطان من آل عثمان، ومراعاة لهذه القاعدة
كان ملوك تونس عند وفاة سلطان وقيام سلطان، يعلمون بذلك أيمّة الجوامع ليخطبوا
باسم السلطان الجديد.
ولمّا سقطت الخلافة العثمانية (28) بقي أمر الخطب الجمعية فوضى
بين الأيمة مدة طويلة، فبعضهم ألغى من الخطبة اسم الخليفة لفقدانه، وبعضهم بقي
مسترسلا في الدعاء لسلطان آل عثمان، ثمّ وقع تدارك تلك الحالة بإغفال اسم الخليفة
بكافة جوامع الخطبة بالمملكة التونسية، واكتفوا بالدعاء للباي ، وللحكّام
المسلمين..
.................................
* الإحـــالات :
(1)محمد حمزة (اسماعيل الحداد) ، العمارة الاسلامية
في أوروبا العثمانية، المجلد الأول، جامعـة الكويت، 1423هـ/2003 م، ص:80.
(2) إنّ العمارة الاسلاميةالعثمانية مرّت بمراحل
عديدة عكست ثراءها وتفتحها، ويمكن تلخيص هذه المراحل في :
- المرحلة المبكرة (699- 907 هـ/ 1299-1501م ).
-المرحلة الكلاسيكية (907-1115 هـ/ 1501-1703م ).
- مرحلة زهرة اللالة (1115-1143هـ/ 1703-1730م ).
- مرحلة الباروك والركوكو(1143-1223هـ/ 1730-1808م ).
- مرحلة العصر الامبراطوري (1223-1326هـ/ 1808-1908م ).
- وأخيرا المرحلة الكلاسيكية الجديدة التي امتدت
من سنة (1326هـ/ 1908م وانتهت سنة 1341 هـ/ 1923م ( المرجع السابق، ص: 115).
(3)وذلك مثل جامع
" طاش مسجد " في قونيـة بتركيا .
(4)كما هو الحال في جامع
"حمزة بك" في "بورصـة" وذلك في النصف الأول من القرن الخامس
عشر للميلاد ( المرجع السابق، ص.ص : 342-343).
(5)الريحاوي ( عبد القادر)، قمم
عالمية في تراث الحضارة العربية : المعماري والفني، ج2 ،
منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 2000،ص :583.
(6)مثل جامع " بايزيد
الثاني" (959 – 964هـ/ 1551-1556م ) الذي بناه المهندس
المعماري "خير الدين آغا" في اسطمبول، حيث يعتبر مقدمة لطراز عثماني
متميز ساد في السلطنة العثمانية وإيالاتها شرقا وغربا وجنوبا.
(7)الفن العربي الاسلامي، ج2،
العمارة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- إدارة الثقافة ، تونس 1995، ص: 345.
(8)نسبة إلى مؤسسه الإمام
"أبو حنيفة النعمان بن ثابت" (80هـ/699 م – 150هـ/767م)، ومذهبه هو من
المذاهب السنية الأربعة الباقية الى يومنا هذا، وهي: المالكية والحنبلية،
والشافعية، والحنفية.
(9)"أسد
بن الفرات": فقيه وقائد عسكري، اشتهر بفتحه لجزيرة صقلية سنة 212هـ/ 827م. وهو ممن أخذ
الفقه على "مالك ابن أنس" ثم انطلق بعد ذلك إلى العراق ومصر ، بعدها
استقر بالقيروان إبان حكم الأغالبة، واشتغل بالقضاء وله كتاب فقهي ينسب إليه وهو
"الأسدية في فقه المالكية"، ولكنه ترك بعد ذلك أهل الحديث ورجع إلى أهل
الرأي فأخذ عنهم الفقه الحنفي بالعراق، وأظهر المذهب الحنفي بالبلاد التونسية، وتولى
القضاء بمذهبه هذا .. (القاموس الاسلامي،ج1،ص: 92).
(10) كان ذلك سنة 992هـ الموافق لسنة 1584م.
(11) سمّي "جامع القصر" نظرا لقربه من
القصر الخرساني والذي سكنته عدة عائلات من الأعيان، ثم تحوّل في أواسط القرن 19
للميلاد إلى مقر أول بلدية بتونس المدينة التي ترأسها الجنرال حسين، وذلك سنة 1857م . كما سمي أيضا بقصر العشرة
نسبة إلى عدد أعضاء المجلس البلدي، وأخيرا حول إلى مقر لإدارة المعهد الوطني
للتراث.
(12) نسبة
إلى سوق "البشامقية" الذي يقع قرب الجامع. ومصطلح "بشامقية"
هو جمع " بشامقي" بمعنى صانع "البشمق" وهو لفظ تركي محرف عن
" بشماق" ، ويقصد به : حذاء المرأة التركية في البيت، أما في البلاد
التونسية فقد لبسه الفقهاء والأئمة وعلماء الدّين عموما.
(13) الخوجات : جمع خوجة، وهي كلمة فارسية الأصل شاع
استخدامها في اللغات التركية بمعنى الأستاذ أو عالم
ديني. (القاموس
الاسلامي، ج2، ص: 29).
(14)من ذلك أنّ "الأهّاب"
يتقدّم الخوجات إلى صومعة الجامع لينشد بصوت رخيم : " عجّـلوا الصلاة قبل
الفوت وبادروا بالتوبة قبل الموت، نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ، يا محمّد
يا رسول الله" .. (محمّد بن الخوجة،
معالم التّوحيد في القديم والجديد ، ص.225).
(15) يطلق مصطلح الصومعة في بلاد المغرب العربي
والأندلس على المئذنة، أما المنارة والمئذنة فهما اسمان للمكان الذي يتم فيه إعلام
المسلمين بدخول وقت الصلاة، وقد استعمل اللفظان في المشرق الاسلامي. مع الاشارة
إلى أن المئذنة عنصر جديد دخل متأخرا على بناء الجوامع ويرجح أنّ أولها تلك التي
أمر ببناءها " زياد ابن أبيه "
بالحجارة في مسجد البصرة عند تجديده سنة 45
للهجرة. أما أقدم مئذنة في العالم الاسلامي التي لا زالت محافظة على خصائصها
المعمارية - رغم بعض التعديلات الخفيفة- فهي صومعة جامع القيروان التي أمر ببناءها
عقبة ابن نافع بين سنتي 50و55
للهجرة.
(16)أصبح "الهلال"
عنصرا ملازما ومكمّلا للصومعة، فهو يوضع في قمّتها بحيث تكون فتحته موازية لاتّجاه
القبلة ليساعد المصلّين على تحديدها إضافة إلى تمييز موقع المسجد. كما أنّ للهلال
معانِ رمزية لدى المسلمين منها : أن التوقيت الاسلامي يعتمد على الأشهر القمرية،
كما يرى البعض أنّ الهلال هو تعبير عن ظهور نور الاسلام الذي بدد الظللمات
الجاهلية، إضافة إلى أن وجوده في عمارة من العمائر يجعلها ضمن المفهوم الاسلامي (يحيى
وزيري ، موسوعة عناصر العمارة الاسلامية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999).
(17) وبالتحديد سنة 1104هـ الموافقث لسنة
1699م. " ، راجع كتاب :
-Saadaoui (Ahmed),Tunis ville ottomane: trois siècles
d'urbanisme et d'architecture, centre de publications universitaires, Tunis
2001, p.p: 120-121.
(18)
راجع تفاصيل محتوى الوقفية بـ : أعمال دفاتر العدول الخاصة بأحباس البايات
المراديين، بتاريخ آخر شعبان 1105هـ الموافق لـ: 25 أفريل 1694م، إدارة الأرشيف والتوثيق
بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، تونس.
(19) الوزير السراج ( محمّد الأندلسي)، الحلل
السندسية في الأخبار التونسية، بيروت 1985، ج2،ص : 562
ومابعدها.
(20)شاه زاده : هو الأمير محمّد
ابن السلطان سليمان القانوني وقد توفي وهو شاب، فأمر السلطان بتشييد مجمع معماري
يطلق عليه اسم ابنه المتوفي، ويضمّ عدة منشآت منها التربة والمدرسة والتكية ..(
قمم عالمية، ص: 577).
(21)وهي تقنية تفنّن فيها الإيطاليون
وأبدعوا، وتسمّى لديهم "Tersia geometrica " .
( Saadaoui, p.246 ).
(22) مفرد خوجة، ومعناه في اللغة
التركية : قارئ وعالم
وكاتب وشبه ذلك.
(23) من تأهّب للشيء قبل وقوعه.
(24) محمّد بن الخوجة، معالم التوحيد في القديم والجديد،
تحقيق وتقديم: الجيلاني بن الحاج يحيى وحمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي بيروت-
لبنان،ط. 2،1985 ص.225.
(25) معالم التوحيد، ص.227.
(26) معناها : حي على الصلاة وحي على الفلاح.
(27) المرجع السابق، ص.229.
(28) تمّ إلغاء نظام الخلافة العثمانية في 3 مارس سنة
1924م.
*********
- علـي الصّولـي -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق